ما يراه السائر في بوليڤارد


متقيًّا شر الأخطاء بتكرارها، أكرر ارتداء ذات  الشورت الأسود في عز الشتاء، وأركض حاشرًا في جيبي كومة من المناديل، التي تشرح تقريبًا ما قصده يزيد ابن معاوية حين قال “تأملوا  كيف فِعْلُ الظبي بالأسد”، الظبي هنا عنادي،  أما الأسد غارق في دوامة الزكام.

لو يعلم يزيد ابن معاوية كيف تبلّيت على  مقصده من البيت فقط.

في الطريق من السيارة إلى الشارع المخصص للركض، ألمح بطرف عيني بوليفارد وهو يمد  أسواره الحديدية ليحتضن البحيرة في وسطه. وعلى أطراف البحيرة تتلألأ الأضواء الصغيرة، التي سواء أبصرتها أم لا، ستؤدي دورها لتنير هذا الجزء من العالم. لكن الفرق الوحيد حين تلمحها بطرف عينك، أن تلك الأضواء الصغيرة ستتعدى دورها المكتوب لها، وستقفز فوق رجفة المياه والهواء الساكن بيني وبينها، وستلمس، بدفء الهدوء الذي أتت به، قلبي البارد.

وكما لو أنني أُبحر في نهر جارٍ، أطأ بقدمي من  الرصيف إلى الشارع المخصص للركض، من أقصى السكون إلى أقصى الحركة، ورغم الازدحام الذي يركض فيه الناس، لا يصدف أن يركض اثنان بذات السرعة.

في الجولة التي أركض فيها حول بوليفارد، يصدف أن أرفع نظري أحيانًا عن الطريق، فتلمح عيني عشًّا فوق شجرة، فأبتسم للصدفة التي تريني المسكن في أكثر من صورة. أو يصدف أن أرى “بو بشير” محلقًّا بسرعة من طريق إلى طريق، فأتذكر كل الخوف الجميل الذي كنا نتشاركه في صغرنا،  أن يترك ذلك المسكين كل هذا العالم الواسع، وبحشر نفسه في آذاننا الضيقة. أو كما حدث اليوم، أن ألمح ثلاث نجمات صغيرات وسط  السماء، فأتذكر كيف كان الأجداد يعرفون أماكنهم، النجمة الحمراء للجنوب، الزرقاء للشمال، والتي تتوسطهما بلا لون، هل بالصدفة كانت تشرح أين أقف أنا ؟ 

أحب انتشار الخضرة هنا. ورغم رؤيتها المتكررة، لا تزال تدهشني، الورود الصفراء، التي  تتبرعم كل يوم وسط الشجر، الشجرالذي هو  أيضًا لا يقف على خضرة واحدة كل يوم. 

تقودني المشاهد والصور دائمًا إلى الذكريات، أكثر مما تفعل الأصوات والرائحة أحيانًا. أعود، حين أنظر للنباتات، للدهشة الأولى بالشعر. حين كنت واقفًا في سينما مجمع الحمراء، وأشاهد من الدور الرابع  الزهور الخزفية المنسدلة من السقف إلى الأرض. كنت أقرأ لوركا حينها. وتخيلت للحظة كيف سيشرح لوركا هذه الورود الخزفية لو  شاهدها. وسط انتظار أصدقائي لي، كتبت في لحظتها، لاستسهالي مكانة  الشعر، ما يشبه القصيدة. ورجعت لهم بعد  نصف ساعة، مبتسمًا لفكرة كيف يمكن للشعر أن ينير أبسط الأشياء الساكنة. أما  لأصدقائي، فكان ابتسامي ووقوفي وانتظارهم بلاهة تامّة لا يفهمون أسبابها. “عادي تعودنا على غرابتك”

لا أحد يبدأ الطريق دون أن ينهيه، فأمر مسرعًا بالعوائل المتجمعة حول النافورة التي تتوسط البحيرة. رذاذ النافورة البارد يلامس وجهي وسط صراخ خادمة لابن صاحبة البيت، وصراخ صاحبة البيت للخادمة التي تصرخ على ابنها، والأب لصاحبة البيت التي…، رذاذ النافورة جميل ودائرة الصراخ   تطول، فأمر مبتسمًا لتلك الدائرة، التي ربما  تبدو سيئة في تلك اللحظة، لكن حتى في قلب ذلك السوء، تكمن صورة من صور المسكن  أيضًا.

بعد أن أعبر الرذاذ وستاربكس الذي في زاوية  البحيرة. أعود إلى المكان الذي بدأت منه. عادةً أكمل أربع إلى خمس جولات. قاطعًا ما  يقارب ٧-١٠ كيلو ركضًا ومشيًا. لكنني اليوم اقتصرت الطريق على جولة واحدة. لا أحد  يبدأ الطريق دون أن ينهيه. أنهيه اليوم لأنني  وجدت مسرّاتي الصغيرة. لكن الطرق ما إن تنتهي في زاوية، حتى تبدأ في زاوية أخرى.

حتى الغد، أو مسرّات جديدة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: