الكف وسط الماء البارد

كما لو أنها رقعة من زجاج، تبدو البحيرة، حين تغفو على صدرها أجساد النوارس المتعبة. كرقعة من زجاج شفاف تبدو البحيرة، من مكاني البعيد عن سور البحيرة، كرقعة من زجاج تبدو، حتى أقترب منها، حتى أحس بالريح المحمّلة برائحة الأشجار والغبار وهي تلامس وجه الرقعة، حتى ترتجف صفحة الماء قليلًا، قليلًا فقط، للحد الذي تثبت فيه لي، ولنفسها، وللريح، أنها ليست بذلك الجمود الذي يبدو للعين البعيدة.

أقرب يدي من البحيرة وأنا أستمع لمحاضرة عن اضطراب الشخصية الحدية للدكتور كيث غاينور.

يشرح في نهاية المحاضرة، كيف تقف على المساحة الرمادية من الأشياء، يشرح هذه الفكرة بتجربة أكل برتقالة مع الحضور لمدة ٤ دقائق، ويشرح له في كل خطوة، كيف يكونون أبطأ. الآن تقطع البرتقالة، الآن تشم رائحتها الحادة، الآن تقربها، الآن تضعها في فمك، الآن تشعر بحبيبات البرتقال وهي تذوب في فمك، الآن كيف يمتلئ فمك بعصيرها، الآن ميف تبلعها، الآن كيف تختفي.

أتلفت حولي وأنا جالس على حافة البحيرة. أمد يدي نحو البحيرة. الآن الهواء بين أصابعي وصفحة الماء، الآن تلسع أصابعي برودة الماء، الآن تغفو كفي وسط الماء، الآن تلتقي حرارة كفي وبرودة الماء كحبيبين في المنتصف، الآن تيّار صغير يتحرك بين أصابعي، الآن طفلة تنظر لي وأبتسم لها، الآن تضع يدها هي أيضًا، الآن نحرك أيدينا، الآن أمها تضربها، الآن أمي.. لا تضربني، الآن أخرج يدي من البحيرة، الآن أمسح يدي ببنطالي، وأكمل طريقي.

كنت غريبًا، قبل أن أعرف ما الذي يعنيه اضطراب الشخصية الحدية، وصرت غريبًا، بعد أن عرفت ما الذي يعنيه اضطراب الشخصية الحدية، غريب، ولكن ربما، بدفء أن يكون له اسم.

يقول الدكتور كيث، إذا كان أفضل شعور من ١٠، وأقل شعور ٠، فمعظم الناس يتحركون بين ٦ و ٤، لكن من يعاني من اضطراب الشخصية الحدية، وببعض لحظات أو دقائق، يعلو إلى ٨، ثم يسقط إلى ٣،  ثم يعلو، ثم يسقط، وليس هناك سبب واضح، إلا ما يُسمى Trigger، وعلى كل إنسان أن يبحث عن الTriggers التي تخصه.

وهذه رحلتي.

جرت العادة في عوائلنا، أن نورث أسماء الآباء للأبناء، بسلسلة تبدو لا نهائية من التركي والعلي والتركي والعلي والتركي والعلي، حتى تختفي ملامحنا الخاصّة، وترتسم أخرى كأنها خارجة من مائة عام من العزلة.

في أغلب الأحيان تكون هذه العادة فرض كفاية، إن قام بها أحد، سقطت عن البقية. وفي أغلب الأحيان يعتق الأخ الأكبر بقية الإخوة من الدخول في هذه الدوامة.

أخي الأكبر، أبو علي، رغم أنه لم يرزق بعلي حتى الآن، أخي الذي يصغره، أبو سليمان. ومن حظي كآخر العنقود، أن يكون لدي الأسماء كلها لأختار.

في كل مرة نذهب فيها معًا، أنا وأبي، نحو مستشفى الأحمدي، كنا ما إن ننزل على الخط السريع، ويبدأ بيتنا يغفو خلف الأفق والغروب، كان يبدأ دائمًا بالحديث، بعد التعليق على إعلانات الشوارع المضحكة وطول الطريق وزحمة السيارات، عن ما لا تنشرح له الروح من مشاكل لا أملك أن أقدّم فيها ولا أؤخر.

ولأنني لم أعتد أن أكون صديق أبي، كنت أحاول بكل ما أملك أن أغير مسار الحديث.  أضغط زر القناة الرابعة على الراديو، التردد: ٩٠.١٠، الأخبار: بايدن وترامب والصراع الذي لا ينتهي، طول البرنامج: خمس ثواني، قم ينفرط حديث الأخبار ونعود لذات الموضوع. أهرب مرة أخرى بسؤاله عن المنطقة التي تلوح من يميننا، يسمّعها عن ظهر قلب، مقبرة الصليبيخات وطريق الشاحنات الجديد ثم الأحمدي والأحمدي الصناعيك، ثم رويدًا رويدًا تختفي الأماكن، ونبقى لوحدنا مرة أخرى.

محاولة أخيرة “قررت إني مو بو وضّاح” يسأل “هاه شنو صرت”، “بو ذياب” يضحك، تنجح الخطة، إذ يصدف أن يكون ابن ابن ابن عمتي اسمه ذياب أيضًا، ونبدأ بالحديث عنه.

أعرف كيف أهرب من المشاكل، لكنني أفشل في كل مرة، أن أُخفي آثار الهروب من الطرق.

لشهر يصبح أسمي أبو ذياب، بعد أن كان أبو وضّاح، بعد أن كان أبو يوسف، بعد أن كان أبو ليلى، بعد أن نسيت أنني بكل اسم، أصنع لنفسي يدًا، تشير إلى الندبة دائمًا.

أذهب سعيدًا وبيدي مائة عام من العزلة، أعود متعبًا وبيدي مائة عام من العزلة. لو أن أفضل شعور يعد ١٠، وأقلها ٠، فقد ذهبت ب٨، وعدت ب٣. 

تريغر ١ ؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: