في حديقة الشهيد، تبدو الأشياء دقيقة جدًا، أكثر دقّة ربما مما يجب أن تكون عليه.
بجانب الممشى الذي يتوسط الحديقة، يجلس عامل على العشب الرطب، وبمقص حديدي يشذّب أيادِ الحشيش حين تمتد أكثر من اللازم نحو أرضية الممشى. وبجانبه يجلس عامل آخر، يجمع الحشيش المقصوص ويضعه في كيس أصفر شفاف.
وريقات المجنونة المتساقطة ما إن تلوّن الأرضية بجسدها الزهري الفاتح، حتى يكنسها عامل إلى جانب الممشى، حيث هناك عامل آخر يجمع المتساقط ويضعه في كيس أصفر شفاف.
أنابيب المياه ترش الماء بوقت متزامن. الصخور الملونة التي يزيّن أرضيّة المدخل، حين تدقق قليلًا، تلمح المسافة المحسوبة بين كل صخرة وصخرة، الحمراء تسبق الخط الطولي كل بضعة أمتار، البيضاء بجانب البحيرة دائمًا، البنية تصطف واحدة وراء الأخرى، قبل أن تنقطع، ثم ترجع. المياه التي تنزل من البحيرة العلوية كشلال، ترجع لتتدفق من جديد في البحيرة.
جميع من يركضون تفوح منهم رائحة العطور الفرنسية. الرجال ببعض الجل على شعورهم وملابس لا تصلح للركض. البنات ببضع المكياج وشعر لا يمكن أن يكون غير مستشور.
في لحظة معينة أتذكر كلام وجيه غالي لحبيبته ديانا عن قصة قد كتبتها “إنها مفرطة المهنية بالنسبة لذوقي، مفرطة الحسن، مفرطة التدقيق”
في لحظة معينة، أشعر برغبة تتأجج للثورة على هذه الدقّة. رغبة تأمل شيء منسي، رغبة جمع ما لا يجتمع من التفاصيل، التفاصيل التي أهملتها دقة العمّال هنا، فكانت أقرب للفطرة، وأألف للقلب.
أمضي في طريقي فيتناهى إلى سمعي هدير ماكينات يصدر في زاوية مطلّة على الشارع. أمضي فأتبسّم لوريقات المجنونة، التي وكما لو أن لها من اسمها نصيب، تختلس السقوط من وراء ظهور العمال الذين كنسوها للتو. أمضي فألمح ورقة شجرة معلقة في الهواء، سحر ربما ؟ أسأل نفسي قبل أن أمد يدي فوقها قاطعًا خيط العنكبوت الذي تتشبث به، فتتهاوى على الأرض. أمضي فأطؤ تسريب مياه على أرضية الممشى، الممشى الذي لا يتحمل الغبار والشمس والمياه المترسبة، فتتنفخ أرضيته، التنفخ الذي يسمح بشق صغير للتربة من تحته، الشق الصغير الذي يُنير بذرة صغيرة، البذرة الصغيرة التي تُخرج زهرة نوّير، زهرة النوّير التي تطل من قلب ذلك التشقق على العالم.
أتذكر أختي تقول قبل أمس ونحن في طريقنا إلى الجمعيّة “شوف النوّير شحلاته، أحس متضايقة إنه ما قام ينبت بحديقتنا”
دون أن أرد، أقطف وردة نوير وأضعها في فتحة مكيّف السيارة.
هل حقًا لم يعد نبت نويّر في حديقتنا ؟
حين رجعنا إلي البيت، سرتُ عبر الطريق الجانبي إلى الحديقة. وقفت أمام الحشيش، ليس هناك زهرة نوّير واحدة، بجانب الأشجار، ليس هناك زهرة نويّر واحدة، كذلك لم يكن هناك على صدر الحوش، ولا بجانب الخيمة، ولا أماك قن الدجاج، ولا في إصيص منسي في زاوية الحديقة.
هل حقًا لم يعد يحلّق نحل في حديقتنا ؟
أنظر لبيوت النحل فوق سطح الديوانية، لا نحل يحلّق فوقها. ولا يقتحم نوافذ الحمامات، ولا يقرص سائقنا محمد، الذي أصبح خبيرًا في تفادي لسعاتها حين ينفخ الدخان في قلب بيوتها.
الغياب يجر الغياب. تغيير بسيط كهذا، كأن يأتي الربيع دون أن ينبت النوّير في حديقتنا، كأن لا يكون هناك نحل، كأن لا نتحلطم عن كم الصيف أتى مبكرًا هذه السنة. وعن حساسيتنا إثر حبوب اللقاح التي تتنقل من نخلة إلى نخلة. تغيير بسيط كهذا، يذكرني أنه، وبلحظة معينة، تكون الأشياء، وفي اللحظة التالية، لا تكون.