مع ناظم حكمت

لا جديد، كل الذين أصادفهم اليوم، اعتادوا أن يقابلونني ممسكًا بكتاب، أو مخبئًا واحدًا في حقيبتي، أو واضعًا إياه ليحترق فوق كبّوت السيارة. 

فجأة، لا تبدوا أسباب قراءتي للكتب مثيرة للسؤال، هكذا، تبدو الأمور سائرة بتسليم، تركي يقرا.

قبل بضع السنوات، كان السؤال يتكرر، ليس بكثرة لكن بصورة تدعو للبحث عن إجابة. في الجامعة طُرح السؤال، كذلك في دوانية مكتظة، وآخرها في انتظار انتهاء سيرفس سيارة أختي، “ليش تقرا ؟” هكذا كان السؤال الغثيث يأتي بغتة، قالبًا تسليمي لمجرّد أنني أريد أن أقرأ، إلى حالة من البحث في معنى هذا الشيء الذي أفعله. وفي الحقيقة، كان السؤال غثيثًا لسببين. الأول أنني مضطر احترامًا لغربة الغريب ألا أجيب بـ “ليش لا ؟” أما السبب الثاني هو أنني في الحقيقة لا أعرف لماذا أقرا. وكنت اضطر لأن اصطنع سبب أو سببين، “فاضي، ما أعرف أسوي شي أحسن، أنفع من الهياته بالشوارع” أسباب تؤدي غرض الإجابة على الغريب، لكن، ليس الإجابة علي.

أتذكر اقتباس الدكتور طارق الربعي في مدونته لهذه الجملة للكاتب الياباني كينكو.

“to sit alone in the lamplight with a book spread out before you, and hold intimate converse with men of unseen generations, such is a pleasure beyond conpare”

وستمر ثلاث سنوات بالتمام، قبل أن أعرف معنى الاقتباس حقًا.

قبل شهر، ولأن يدي ستبدوان خاليتين وأنا أشتري فقط علبة دبابيس من مكتبة جرير، قررت أن أشتري أي كتاب معها *مبرر ليس إلا*

مررت بقسم السير الذاتية. وقعت عيني على كتاب “الحديث الأخير مع ناظم” قرأت صفحتين وخرجت مفتونًا. لهفة لأن أكمل الكتاب. وأكملته.

في قصة موته. يقول المترجم أنه في يوم، وفيما كان ناظم حكمت وأصدقاءه يتسامرون. تذكر أنه لم يقرأ الجريدة. حين فتح الباب ليأخذ الجريدة، انتبه لحلول العتمة. التفت لأصدقائه وقال فيما هو راحل، اشعلوا الأضواء، ثم مات.

وبرغم عدم تصديقي للقصة، لكنها جميلة. خصوصًا وأنه في قصيدة قال:

“إذا لم أحترق أنا،

إذا لم تحترق أنت،

إذا لم نحترق نحن،

فمن سينير العالم”

بين تلك الصفحات، فيما أكمل ما بعد مقدمة المترجم. أكاد أقسم أن ناظم حكمت لم يمت. ابتسامته لا تزال تنتشر، شخصيته المتواضعة، هناك من يقابلها، الضوء الذي طلب منهم أن يشعلوه، لا يزال يراه، حبيبته التي تزوجها رغم المرض والرفض، لا تزال بين يديه. كل هذا موجود في مكان ما. يعيش، ويستمر. ويكبر.

بعد كتاب “الحديث الأخير مع ناظم”، قرأت أشعاره بترجمة رديئة، لكن روحه أوضح من أن تطمسها ترجمة رديئة. 

اليوم أنهيت كتاب الروائي التركي أورهان كمال “ثلاث سنوات ونص مع ناظم حكمت” وحين ألتفت لأي قد يسألني “تعرف ناظم حكمت” سأبتسم كما لو أنني أتذكر صديق، وسأقول “إي، أعرفه”

وكما كل الأسئلة، التي لن نعرف إجابتها إلا بعد أن تغيب الحاجة للإجابة. ها أنا أعرف إجابة السؤال الذي سؤل في الجامعة، والدوانية المكتظة، وسيرفس سيارة أختي.

-ليش تقرا ؟

-عشان أتعرّف على ناس أكثر.

ولو كانت الإجابة لن تناسب الغريب، الذي ها هو، كأنني أراه يضحك علي. لكنها إجابة، ورغم سخافتها، تناسبني.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: