حين تسكن قدمي بعد الركض لمسيرها الطبيعي، بين زحمة الأشجار، بعيدًا عن قسم العاب الأطفال، تمرني ناعمة نسائم بدايات الخريف. ويمرني تخفف تلك الزاوية من المتنزه، من ثقل الأبنية والبشر. أرخي سمعي عن ثقل ما أفكر به، فأتنبه مستأنسًا للطريقة التي تتعاكس بها حركات يدي مع قدمي، اليمين مع اليسار واليسار مع اليمين، موقنًا أنها فكرة كانت لتناسب ماركيز بوصفي أحد العساكر، لولا النعاس البادي على أجفاني ونظرتي، الذي سلب مشيتي العسكرية حزمها.
أرخي سمعي أكثر، فاسمع احتكاك التيشيرت بجسدي. صوت على قربه وصخبه، إلا أنه يبدو مريحًا للسمع. أغمض عيني قليلًا، أفكر للحظة إن كانت حركتي أصخب من المعتاد. أغمض عيني قليلًا، لا يهم، فسماعات الرأس نسيتها في السيارة، وليس لي الا صوت الاحتكاك، وبعض الأفكار، أنصت لهم.
Train station 1
ليس على المرء ان يدقق كثيرًا، حين ينظر لمحطات القطار الأربع في المتنزه، قبل أن يدرك أنها ليس لها إلا اسمها. فمن الزجاج الشفاف لواجهة المحطة، ستلمح مقعدًا أو مقعدين، وبجانبهما ثلاجة كولا، وبجانب ثلاجة الكولا حمام يتزامن جنس مستعمليه حسب المحطة. الأولى للذكور، الثانية للنساء، وهكذا ستخمن إن كنت رجلًا محصورًا وتمشي بجانب المحطة الرابعة، أنك على الغالب تمشي في ورطة.
لم أدخل سوى قطارين حقيقيين في حياتي. وفي كليهما كنت أصغر من أن أستوعب التجربة. أصغر من أن أتأمل الوجوه السارحة، أصغر من أن أمسك كتابًا وأستغرق في القراءة، ككل الأحلام الوردية لأفكار القطارات، وأصغر أيضًا من الفكرة الوردية الأهم، أصغر من أن أكون إيثان هاوك في ثلاثية أفلام Before Sunrise
أخرج من أحلام اليقظة. المطعم بجانب المحطة، الحطب بجانب المطعم، دخان الشواء بجانب الحطب والمطعم والمحطة. العوائل متجمعة باستئناس حول الدخان. أما شخص مثلي، يركض وفي جيبه الأيسر بخاخ الربو، أدعى له الهروب من الاستئناس.
Train station 2
أسرع المرور داخل أحد الأنفاق، الذي يظلم رويدًا رويدًا بالتزامن مع صراخ الأطفال في وسطه. ولا يسعك حين تقترب من النهاية ألا ترى النور في آخر النفق، حتى وان كنت أكبر متشائم بالحياة. فما إن تخرج منه حتى يخطف بصرك ملعب البيسبول الواسع. فعلى الرغم من أنهم لم ينيروا إلا ثلاث كشافات من أصل سبعة، وعلى الرغم من أنهم لم ينيروا إلا أربعة مصابيح من اصل ثمانية لكل كشاف، الا أن الملعب يسبح في الضوء كما لو أن شمسًا أشرقت عليه.
على الرغم من خلو الملعب، استمرت الأضواء في الإنارة، واستمر الحارس النحيل يقف على بوابته الواسعة، قبل أن تعرف الإدارة أن مكانًا بهذا الخلو، وهذه الكشافات التي تعمي العيون، لا يعد مكانًا فاتنًا للأطفال، أو على الأقل، أطفال الآن.
بجانب ملعب البيسبول، يوجد ملعب كرة قدم مقسوم لأربعة أقسام لأكاديمية ليفربول، حيث جميع الأهالي يتبسمون لإخفاق أطفالهم بتسديدة أو سقوط. وأيضًا حيث تستوقفني عجوز بعد أن أبتعد قليلًا عن الملعب، لتسألني عن أقرب مدخل للاكاديمية، حيث أرافقها حتى المدخل، حيث أقف قليلًا بلا سبب، وتقول هي بكل أسبابها “هذا سعد، حفيدي”
Train station 3
هل يعرف، من يمر أمامي الآن، أنني أعدد الكتب التي أريد شراءها من معرض الرياض الدولي للكتاب ؟ رواية شتيلر من دار الآداب، دفاتر كارل تشابك من دار الخان، من دار روايات رواية أحمد الحقيل، من الجمل لا أعرف، من المدى لا أعرف، من دار المنى السويدية لن اشتري شيئًا، وإلا سأعرف كيف يكون طعم مبيت المرء دون فندق، في بلد غير بلده.
Train station 4
قبيل فترة قال لي شخص في معرض التعليق على لبسي غترة ودشداشة “إذا تغيرت ٣٦٠ درجة، فإنت فعليًا رديت حق مكانك إلي انطلقت منه، يعني ما تغيرت، الأصح تقول تغيرت ١٨٠ درجة”
أتذكر كلامه، وأنا أنظر للحارس النحيل الذي أُبعد من ملعب البيسبول، وهو يقف في المحطة الرابعة، أتذكر كلامه وطفل بملابس ليفربول ينحصر وهو عند المحطة الرابعة، التي حمامها لمن ؟ أتذكر كلامه حين أتذكر وجهًا من القطار الذي زرته في طفولتي، وأبتسم، أتذكر كلامه حين ألمح مينيو الخريف من مقهى لم يعد الناس يتذكرون كيف قاطعناه، أتذكر كلامه أيضًا حين يتبلل حذائي، من المياه التي تفيض عن محيط شجرة الأكاسيا، وهي تجري مسرعة نحو المحطة الرابعة.
أكمل الركض في دائرة حول المتنزه عائدًا إلى سيارتي. كما بدأت. ربما