بسيطة هي الطرق المهجورة، فكل ما يلزمها لكي تنسى مصابيحها التي لم تبنى، هو أن يمر غريبان بسيارتهما في نفس اللحظة، فتخلق ولو لبرهة، مسافة من الضوء، تستطيع به العين، العين المسافرة والبعيدة عن أهلها، أن ترى ما يمكن لها أن ترى. وبسيطة هي الحكومات، فحتى بأبهتها وأذرعها الممتدة، لا تستطيع أن تنفك عن شيء بسيط مثل هذا، شيء شاعري مثل هذا، لكي تترك عامدةً كل تلك الدروب، كل تلك المسافات، دون أن تضع مصباح واحدًا صغيرًا، صغيرًا جدًا، ينقشع به كل تلك الوحشة عن وجه الطريق.
أحب ما يتواطء عليه الناس من الأفعال، ففي كل مرة يتشارك غريبان معنى معين، يترك كلاهما قطعة من عزة النفس، لفرصة التبسم حين يفهم كلاهما مقصد الآخر. فحين رفعت رأسي من المقعد الخلفي، بالتزامن مع تشغيل القادم من الطريق المقابل المصباح “العالي” في سيارته، في تلك اللحظة البسيطة، تنازل القادم من الجهة المقابلة عن راحة يدها بتحريكها لذراع المصباح، وتنازل صديقي حين يحرك ذراع المصباح هو أيضًا عن جملة “ابن ال… هذا شفيه يشب العالي”، وكسب كلانا، نحن والغريب، خوف أحدنا على الآخر من نعاس مباغت، وألفة وجود الحياة، حتى في طريق رماح المليء بالحفر، حتى في قلب السيارات المارة بسرعة ١٦٠ كيلو بالساعة.
في وسط الطريق، كنت أنظر للسماء من وراء تغييم زجاج السيارة، قبل أن ألمح ما يشبه ندف الثلج وسط حلكة المشهد. أُنزل النافذة وألمح مشهد السماء الليلي المهيب. أطلب من صديقي أن يركن السيارة.
أطأ التربة البردة بقدمي الحافية. أرفع رأسي بحنو نحو السماء، وعلى صدر السماء كانت تغفو النجوم، النجوم الصغيرة، النجوم الكبيرة، النجوم التي تلوح كما وهم، النجوم التي يقول لي صديقي أنها كوكب الزهرة، النجوم التي كما ندف الثلج، أستعملها للوصف، متوهمًا أنني أعرف ما تبدو عليه حقًا قبل الآن.
نتوزع في المكان، صديقي الذي يقود السيارة يرمي الصخورمتخيلًا صوت الجنية في كل قصص الجن يخرج من وسط البر، صديقي المصور يلتقط صورًا، وصديقي الذي هو أنا، يقف مكتف اليدين، مفتوح القلب، وناسيًا عري قدمه، الذي يشكل فتنة لعقارب الأماكن الخاوية.
عقرب، نجوم، قمر. وعلي عشوائية وبساطة ذاكرة الانسان، أتذكر كيف ينمو رويدًا رويدًا حبي للأبراج. أتذكر صوت صديقي حين كنت أشرح له أن للإنسان نصيب من قمره وطالعه، أكثر مما له من برجه الأساسي. وكان يقول “طايح على وجهك” ولتلك الجملة أيضًا معناها الذي تواطء عليه الناس.
أنظر للأبراج في نفسي، حين رفعت رأسي وسط الدرب المهجور، للسماء المضيئة. فحين يصدق الناس الصفات التي تتقاطع في روح الناس، أصدق أنا الشاعرية التي تحملها الأبراج حين تصف الأبراج. أفتح أحد المواقع المتخصصة في الأبراج. اليوم ١٥، الشهر ٨، السنة (كم أبدو لك ؟)، الوقت ١:٣٠ الظهر، وأتذكر رد أمي حين سألتها “إي، ١:٣٥ الظهر بالضبط، حتى ما خليتني أتغدا”
أصدق الشاعرية، حين يقول شخص أن شمسه لا تشبهه، ويقول الآخر أن له من كوكبه أكثر مما له من أي شيء آخر. أصدق الشاعرية حين يتأمل شخص ما له من صفات الماء والنار والهواء. أصدق الشاعرية حين يكون لكل شخص، وبمعلومات بسيطة، منازل للقمر أو النجوم، لا أعرف. وأصدق أهم ما أصدق، أنه يمكن للإنسان أن يعرف لين روحه، من منزل القمر الذي لاح فوق رأسه ساعة الولادة.
لي ما أؤمن به من الشاعرية، وللناس صفاتهم، ولصديقي سخريته التي أحبها.
بالعظام المتكسرة والمقاعد المتسخة والمحافظ الخاوية بسبب غلاء الحياة في الرياض، نعود للكويت. نقف في حدود الكويت قبيل منتصف الليل، “ما تتغير الحدود مهما غبت عنها، من بعيد شخص يمشي…” أقول وأهم أن أكمل “مساحة شاسعة لا يمكن للهارب إلا أن يبدو واضحًا، رائحة هواء الدول التي نتوهم أننا نفرق بينهم، الحماسة والشوق، اللذان لا يمكن للربيع في الأشياء أن ينبت من دونهما”
هذا ما كنت أهم بقوله، وهذا أيضًا ما خبأته، لكي لا أبدو متفلسفًا بعين أصدقائي. قال لي صديقي مرة أنه يقرأ لأصدقائه ما أكتبُ كل يوم خميس. وسيكون أسهل بالنسبة لي أن أسأل هنا، وأنتظر الإجابة في الخميس القادم، هل أبدو متفلسفًا حين أقول ما أقول ؟