ما لا نقصد أن نتركه من أثر

خوفًا من أن يكون شوقي للقاء الشتاء، أكبر وأكثر لهفة من شوقه لي، كنت أقدم خطوة عجلة، وأسحب اثنتين، بينما أسير في شارع أبو الحصانية، باتجاه البحر. لكن النسائم التي بيدها تداعب قلب البحر، كانت بيدها تداعب قلبي وتطمئنه، أن الشوق، بيني وبين الشتاء، يتساوى بالحجم واللهفة.

أمر السور الذي يفصل الشارع عن الشاطئ، أمشي مسرعًا نحو البحر، أغرس قدمي على الحد الذي تظن فيه الأمواج أنها قادرة علي لمس قدمي، ولا تفعل. أمشي موازنًا نفسي على ذلك الخط النحيل مجاهدًا أن أتخطاه، عينين مثبتتين على الأرض، يدين تمتدان كعامود موازنة في الهواء، وشَعرًا في اليوم الجيد له، سيتحرك مع الهواء.

أرفع رأسي نحو البحر، زرقة تختلف نقاوتها في الجانب القريب من الشاطئ، عن عرض البحر. أفكر بتلك الزرقتين وأنا أجمع الأصداف والصخور، وأتركها في كل مرة في أحد زوايا الشاطئ. أفكر بتلك الزرقتين وأنا أنظر للكهل الذي يتفقد شبكة صيده التي تمتد حتى منتصف البحر، أفكر بتلك الزرقتين، وأنا ألمحه يهش قطة، وهو يكاد يدهس الطير الميت، وهو يمر بجانب كلمة فن، المرسومة على سور الشاطئ ببخاخات ملونة، وهو يركب سيارته، وهو يذهب بعيدًا.

خمس دقائق منذ أتى، خمس دقائق منذ ذهب. أغمض عيني قليلًا. كيف ستبدو الزرقة، لو لم نكن أنا والكهل قد مررنا من هنا، قد تمحو قطة لم نهشها أثر الموت في شاطئ وديع، قد تعيش الأسماك دون أن تلعب مع الصياد الكهل لعبة الحبار، قد تعيش الأمواج بسلام دون أن تحاول أن تصطاد ما لا تستطيع اصطياده، وقد تتساوى أخيرًا زرقة البحر.

أذهب لمكتبة جرير، بعد مشوار البحر.

من بين أجفان الأشجار المتحركة مع الهواء، في مسافط جرير، يظهر ويختفي، ضوء القمر الناعس. أتذكر رياض الصالح الحسين وهو يقول: “ألف ذراعي اليسرى حول كتفك، واليمنى حول العالم، وأقول للقمر، صورنا”

هنا، أنا أرفع هاتفي، إنه دوري أن أصور القمر، ودوري أيضًا أن أفشل بالتقاطه، فكل ما يبين، جذع شجرة السدر، وهو يخبئ وجه القمر خلفه. ينظر صديقي للفيديو الثابت، “يا حبك للشجر”، وفعلًا، حتى وإن لم أقصد، يا حبي للشجر.

لا نطيل، كتاب أشعار سيلفيا بلاث بتقديم من زوجها تيد هيوز، ونخرج من جرير.

أحب التقاط الفيديوات الثابتة أكثر من التقاط الصور. فمن بين السكون الذي يلف الأشياء في المشهد، تظهر في لحظة بسيطة، الحياة الكامنة في قلبها. في قلب مشهد القمر الذي لم استطيع التقاطه، كان الغصن يدب الحياة في المشهد بتحركه البسيط مع الهواء. من مشهد المقهى الذي يمتلئ برؤوس الناس المثبتة على هواتفهم، كان صوت فيروز بأغنية “أسامينا” يبعث دفء الحب في تلك الأفئدة البعيدة عن بعضها، رقم قربها. الضفادع في الشارع الساكن. ورقة الشجر على البحيرة، والتي ترينا أنه حتى في الكويت، الخريف ممكن.

مدونة مرئية ؟ ربما في يوم من الأيام.

أعود إلى البيت بعد مشوار مكتبة جرير.

في البيت، أمي ببخورها وابتسامتها وألفتها تنتظرني، نروح سعد العبدالله ؟ ورغم تعبي، نروح سعد العبدالله. وقبل أن نخرج من باب البيت، سؤال صغير، هل دخلت البيت في مرة، دون أن أبحث عن أمي ؟ أعود إلى الجملة الأولى، أغيره قليلًا في ذهني: في أمي، البيت ببخوره وابتسامته وألفته ينتظرني، نروح سعد العبدالله ؟ نروح سعد العبدالله

نمسك الدرب، ووسط الصمت، الذي كان يلفني أنا وأمي في طريقنا إلى بيت زوجة ابن عمتي، لم أملك لأن أكسر ذلك الصمت سوى أن أرفع رأسي نحو السماء، لأنظر للهلال النحيل المقوس، وأشير لأمي “شوفي، كأنه اظفر مقصوص” تضحك أمي، “ما أتوقع في أحد بيشوف الهلال اظفر مقصوص غيرك” 

يقول فاغنر “الفن هو فرح الإنسان أن يكون ذاته”، ورغم بعد تلك النظرة للهلال عن الفن، بعد بيتنا في القصور عن سعد العبدالله، إلا أن الإنسان لا يملك سوى أن يرى أثر نظرته على الأشياء، ولو كانت بتلك الرداءة، ولو كانت بتلك البساطة، ليشعر بذاته.

بضع ساعات نقضيها قبل أن نعود إلى البيت، وأعود إلى غرفتي.

أفتح باب غرفتي، ومن اليسار، نبتة، نبتتان، ثلاث، أربع، خمس، ست، “يا حبك للشجر” فعلًا، يا حبي للشجر. 

أستلقي على السرير، سيلفيا بلاث تبدو خيارًا أكثر حزنًا لمثل تلك الليلة. أقف على درج مكتبتي، ولا أستطيع أن أنظر للكتب دون تخيل الأثر الذي تركته حياتي عليهم. فكما ترتبط سيلفيا بلاث بما يذكرني بوجعي، كان نجيب محفوظ أنسب في عز الشتاء، وبيكيت لصباحات الإجازة، شجرتي شجرة البرتقال الرائعة للجامعة، ميشيما لحديقتنا، بوكوفسكي للنقاش عن الشعر، أنزل درجة واحدة، أمسك كتاب المحصول الأحمر لجورجي أمادو، أقرأ أول جملة:

“جرفت الريح الغيوم فتوقف المطر عن الهطل” مطمئنًا أحمله معي لزاوية السرير. وكالعادة، بضع صفحات قبل أن يغشاني النعاس.

هامش:

اليوم هو الثاني والعشرين من الشهر القمري، ومن هذه اللحظة حتى عشرة أيام قادمة، سيبدأ القمر بالانحسار رويدًا رويدًا، حتى يصبح هلال نحيل مقوس، ولا أملك حين أراه حينها، سوى أن أبتسم حين أترك أثري عليه، كما ترك صديقي أثره على حبي للأشجار، وكما ترك الكهل في الشاطئ أثره على زرقة البحر.

ملحق مرئي:

طير ميّت كان سيمحو أثر موته قط لم نطرده
أصداف وصخور، أثرنا الذي نتركه في زاوية الشاطئ
كلمة فن، بلا فن
البحر بزرقتين مختلفتين

4 Replies to “ما لا نقصد أن نتركه من أثر”

  1. يا عذوبة سردك ياخي، تنسلّ كل كلمة وحدث بخفة عجيبة، تداعب ادراكي الجمالي للأشياء. أرجوك خليني أتململ منها.

    إعجاب

  2. “إلا أن الإنسان لا يملك سوى أن يرى أثر نظرته على الأشياء، ولو كانت بتلك الرداءة، ولو كانت بتلك البساطة، ليشعر بذاته.”

    كان أسلوبك الممتع له آثر حنونًا على خيالي بأن يتخيل مهما كان الخيال بعيد المنال

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: