في كل استلقاء نولي به ظهرنا للأرض، وسواء شعرنا بذلك أم لم نشعر، يحدث ما يشبه التماس بين كل نقطة من نقاط ظهورنا الصغيرة، مع المادة التي نستلقي عليها. وسواءً كان ما نستلقي عليه سرير غرفنا الدافئة، أو عشب الحديقة المندى بالبلل البارد، أو حتى تربة نظن أنها كريمة للحد الذي ترغب فيه أن تحتضن ما نشعر به من توتر. في كل الأحوال، فإن كل تلك النقاط الصغيرة تمشط بحثًا عن الزلل، فيما نستلقي عليه.
لم يستغرق إيجاد ذلك الزلل الكثير من الوقت، حين استلقيت على السرير الأبيض، في زاوية غرفة الطوارئ. فما إن استلقيت، حتى أخذت الطبقة المنديلية المفروشة على السرير بالتجعد والانسحاب، خالقة ما يشبه أثر النوم الجميل، الذي لم أذقه منذ البارحة.
ليس نبض القلب، سوى النظرة الصامتة، التي يحاول فيها شخصين، أن يقولا لبعضهما شيئًا، دون أن يقولاه حقًا. (١) في البارحة، يوم الجمعة، وإثر ركضي المبالغ فيه، لأكثر من أربعين دقيقة، وصل نبض قلبي إلى مائة وستة وتسعين نبضة في الدقيقة. أي أقل بستة نبضات من ما يفترض أن يكون الحد الأقصى لقلبي. أي ما يشكل، في لغة الأعين الصامتة، هلع تغمض فيه العين من قلة الحيلة.
أكملُ الاستلقاء الغير مريح، كفي اليمنى على صدري، والأخرى أحاول بها تصوير جدران غرفة الطوارئ، التي فشل اللون الأخضر القامت، بتهدئة مريض هادئ مثلي.
لا أتذكر بالتحديد اللحظة التي بدأت فيها بزيارة الطبيب لوحدي، لكنني أتذكر أنني لاحظت في يومها، ولأول مرة، الخط البارز في منتصف جدران المستشفى. ولاحظت أيضًا كيف أن اليد الضعيفة حين يضعها صاحبها على الجدار، كانت تنزلق رويدًا رويدًا حتى تسكن لصلابة ذلك الخط، وحينها فقط، كان يستشعر ذلك الشخص القوة التي اكتسبتها خطوته، ليكمل مسيره لوحده.
ومن حينها، أصبحت هوايتي أن ألاحظ لون الخط البارز، في كل مرة أزور فيها الطبيب لوحدي. مستشفى الأحمدي، كان لون الخط مائل إلى الزرقة. في المستوصف كان رمادي، أما عيادة الأسنان فكانت أكثر وحشية من أن توفر ما يسند الزوار، أما هذا المستشفى، في غرفة الطوارئ التي أجلس فيها بالتحديد، كان الخط بلون أصفر باهت.
لم تُجرَ عليّ الفحوص مرة واحدة، ولكنها تقسمت لمهام صغيرة جدًا. وكل مهمة كان يفصلها عن الأخرى بضع دقائق. وفي كل مرة كان يُطرق الباب، كان يستقبلني وجه ممرضة جديد. وشعرت لوهلة، أنه حتى في قسم الطوارئ، حتى بين سعال الشايب في الغرفة المجاورة، وبكاء الطفل في أخر الممر، ونظرة قلبي الهلعة، كان هناك من يعرف ما الذي تعنيه البيروقراطية، ،كيف تنفذ بحذافيرها.
وتوهمتُ، والطبيب أخيرًا أمامي، أنني وبمجرد نطقي للثلاثة أرقام “ون هاندرد، ناينتي، سيكس” ستتجسد نظرة قلبي الهلعة على وجهه. وقليلًا ما كنت أعرفه، حين نظر إلي الطبيب من أعلى شعرة في رأسي، إلى أسفل نقطة من حذائي الأديداس، قبل أن يقول “in this age, in this condition, I don’t think so” وكما لو أننا اتفقنا قبل حديثه، ما الذي قد يعنيه، ما لا يظنه أنه قد حدث حقًا.
كان صعبًا علي أن أشرح له أن قلقي حقيقي، وأنني لست متطفل على غرفة الطوارئ. ورغم عدم التصديق الذي قوبلت به، أوصى الطبيب بتخطيط قلب، وثلاث فحوصات للدم، وكان عليه أن يختم التوصية، كأي مزدر في العالم “though I’m sure you’re fine”
تخطيط قلب وفحص دم وقصة ثم تنتهي الحكاية
نزعتُ التيشيرت الذي كنت ارتديه، وبضع نقاط صغيرة وُضعت على صدري، بطني، رسغ يدي، وكعب قدمي، وكانت تلك النقاط الصغيرة، في تماسها مع جلدي، تبحث عن الزلل فيما تستلقي عليه من مادة، ألا يبدو الأمر مألوفًا ؟
بعد التخطيط، تبين أن قلبي ينظر، أو ينبض بسكونه المعتاد.
فيما كنتُ أكتف يدي، محاول تناسي ألم إبرة سحب الدم، لاحظتُ وجود نقطة رمادية تقبع تحت جلد ساعدي. وكما يتدفق الدم من العروق إلى علب العيّنات بسلاسة وهدوء، كما لو أن الهروب من العروق لم يكن غريبًا عليه. تدفقت ذكرى تلك النقطة الرمادية في عقلي.
كانت ربما السنة الثانية أو الثالثة الابتدائية، وكان صالح الأحمد أو وليد الشطي، لكن الأكيد أنني كنت الطرف الآخر في العراك، وكان الأكيد أن قلم الرصاص استقر لبضع ثوان في ساعدي، كما لو أنه نحلة تخوض حربها الأخيرة، قبل أن يسقط، تاركًا طرف الرصاص المبوز في وسط جلدي.
أتذكر الدموع التي ذهبت أكفكفها نحو الأخصائية، وأتذكر تغافلي إياها، ممسكًا بالهاتف الأرضي، وضاربًا الأرقام السبع الوحيدة التي أحفظها. أتذكر صوت أمي “بسم الله، شفيك !” وصوتي وهو يتقطع “يما، انطعنت” ولم أعرف كيف أوصل غير تلك الكلمتين. ولم تعرف أمي سوى أن تصل بدقيقتين.
كانت أعيننا تتلاقى، عيني الباكية، وعينها الفزعة التي تغمض من قلة الحيلة، وهي ترى اللصقة الصغيرة على ساعدي. كنت أصغر من أن أفهم ما الذي يعنيه السياق. وأصغر من أن أفهم أن قلم الرصاص لا يطعن، رغم أنه يطعن. كنت أصغر من تلك الغرفة الصغيرة، وأصغر من نظرتي التي أقلبها بين كفي، وأصغر من الصفعة، التي هدمت الهوة بين ألم ما قصدته من كلمة انطعنت، وألم ما فهمته أمي من كلمة انطعنت.
صوت طرقة الباب، الممرضة تطمئنني أن جميع الفحوصات سليمة، نظرة الطبيب وهي تقول “I told you so”، نظره اللون الأخضر، نظرة الخط البارز، نظرة النقطة الرمادية في ساعدي، نظرة الكهل الذي أهلكه السعال، نظرة الطفل الباكي وسط أمه وأبيه، نظره قلبي. وكما لو أنها جوقة، وكما لو أنني الصوت الوحيد فيما بينهم.
“I told you so”
(١): وعلى ما يبدو، أن الاثنان، القلب وصاحبه، يجب أن يشعرا بالمجاز، على القدر ذاته من الحب، ليعيشا معًا.
قرأت هذه التدوينة مرتين خلال اليوم. المرة الاولى كانت وأنا أنتظر مدربة القيادة تنتهي من الحديث مع ولدها الذي رسب في مادة الرياضيات. في الحقيقة، ذهبت الكلمات المكتوبة هنا معي، انطلاقًا من الجهراء، وصولاً الى شارع الخليج العربي. أما المرة الثانية، فكانت الآن، أقرأها قبل أن أنام.
أُحب كل ما يكتب عن القلب، وأحببت ما كتبته. شكرًا على هذه التدوينة الدافئة
وعذرًا على تعبيري الفقير
إعجابإعجاب
شكرًا جدًا لهذا الكرم، ممتن 🙏🏻
إعجابإعجاب