أشياء أخرى

طوال الليلة الماضية كنت أشاهد مقابلة بين أنس بوخش وأمه هالة، حين كانت كلماتهم تسير رويدًا رويدًا نحو نقطة واحدة في الوسط؛ حتى أصبح أنس في نهاية المقابلة يتحدث وينظر نحو الحب، كما كانت أمه تتحدث وتنظر نحو الحب. “يحن العرق” في اللحظة التي تفضح فيها لا إرادية فعل معين، المكان الذي نشأ فيه الشخص. ولكن ما لم أكن متأكدًا منه، إن كان حنين العرق يتجاوز التصرفات، ليحن أيضًا ويتبدى، بالنظرة والضحكة وطريقة التعبير في الحب. لم يكن هناك بين أمي وأبوي مشهدًا أكثر تعبيرًا فيه للحب، عن اللحظة التي تغضب فيها أمي وتتغير نبرتها، فيغنّي أبوي بيتين شعر:

”يا ليتني صقر وخلي حمامة
أضمها بين الجناحين وأطير
واشهربها عن لابسين العمامه
يم الفضا حتى تضيع المداوير“

لم أحب بالشعر، رغم مسحة العذوبة التي تكتنزه. ولم أحب بالرضا والغضب، رغم سلام اللحظة التي تضعف فيها التكشيرة على الابتسامة. كنت أحب، بما يتلو تلك اللحظتين، لحظة الجلوس والضحك على احتمالية أن يكون الحب سخيفًا وعذبًا بذات الوقت. كيف لي أن أعرف أسماء أصباغ الأظافر، بينما تعرف هي سحر تمريرة ميسي أمام هولندا، أن أعرف رقّة مشهد الغروب من السبا النسائي، وتتفهم هي أن حبي لآني آرنو لا يتجاوز كتاب أقرأه في زاوية غرفتي.
وكأن الأبد برهة بين ضحكتين.


يبدأ الشتاء، ولا أكون وحدي حين يهطل المطر. كل قطرة تجد في كتفي المسرع من سيارتي نحو باب البيت، حضنًا آخر، لتستريح عليه.
لا أتذكر آخر مرة خبأت فيها نصف يدي في كم الجاكيت الشتوي. كان يكمن في تلك الحركة -رغم أنثوية الانطباع الذي تخلفه- أمان لا أجده إلا بفعلها. 
بالأمس، وحين كان يشرح صديقي المصوّر كمية الدهن في الذبيحة التي طلبوها، كان يقول “بعد ما قطعت اللحمة، كنت أشوف وجه بو حمود بقاع الصحن” لم أفهم وصفه ذلك في حينها. 
لكن بعد استمراره بالشرح بدا لي واضحًا ما كان يقصده. تمثيله وهو يمسك الصحن، وهو يميله من اليسار لليمين، وهو يرى الدهن يتأرجح، وهو لا يعرف أن يشرح سوى بعين سينمائية لا ترى كثرة الدهن بملل المعتاد، بل تتجاوزه لتقول أن الوجوه المحيطة كانت تنعكس على ذلك الدهن.
كان يرى كل شيء من خلال تخصصه. لا أعرف كيف أشرح الأمور كما لو أنني كاتب. لا أعرف في الحقيقة كيف يمكن أن تُشرح الأمور كما لو كنتَ كاتبًا. هل تكون في اللحظة التي أشرح بها الأمور مع المزيد من التفصيل ؟ حين أقول كلمات كبيرة ؟ حين أعرف ما أحذفه وأضيفه ؟ وكلما أمعنت بالتفكير أكثر، يبدو أن تتكلم ككاتب مثيرًا للضجر.
أفضّل أن أكتب كما يحب الشخص. بالرقه التي تبدو لي أيسر من التكلف. أتذكر كيف يبدو سلسًا أن أكتب عن حبيبتي، وفي المقابل، كم أجده صعبًا أن أكتب عن كل الأشياء الأخرى. أتذكر آخر مرة قرأت فيها لحبيبتي ما كتبت. كنت أقرأ وأستمع من خلف صوتي الضحكة الصغيرة التي تطلقها ما إن أقول شيئا رقيقًا للغاية، أو مضحكًا للغاية. في بعض اللحظات كنت لا أجيد التفريق بين ما هو رقيق وبين ما هو مضحك. كل التفاصيل التي نعيشها ونضحك عليها، حين نعيشها مرة أخرى، تصبح رقيقة جدًا.
تقول زادي سميث أنها إن لم تكتب، ستسير في الحياة كما لو أنها نائمة. لا أشعر بهذه الحدية في ترك الكتابة. إن تركت الكتابة الآن وفي هذه اللحظة، لن يتغير شيء. سأمشي من زاويتي في ستاربكس إلى سيارتي، وأحضر الزوارة، وربما أتفلسف هناك عن الغيوم والشتاء والكتاب الذي أقرأه الآن. سأعرف كيف أعيش بفعل ما اعتدت على فعله. لكنني ربما سأفتقد ترف الكتابة، ألا يرى الناس التفاصيل من نظرتي، ألا أساسر حبيبتي بما كتبت عنها وتقول لي “this is so creative”، ألا أمر الأماكن التي كتبت عنها متذكرًا همسي بالكلمات لنفسي. الكتابة ترف، لكنني أحب أن أعيش هذا الترف. أحب ولا أحتاج.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: