في البرد الذي يحيط بجسدي الراكض في حديقة الشهد، لا تتجمد سوى أطراف أصابع يدي. كنت أجمع كفي، أنفخ فيهما، ولا ينتشر الدفء سوى للحد الذي ينتهي به نفسي القصير. كنت ما إن يمر أحد بجانبي، حتى أكف عن تلك الحركة، فكما يقول أبي “الذيابة ما تستبرد”. درجة الحرارة ١٢ درجة، اكتشفت أنني لم أكن ذئبًا حين مر بجانبي شخصين. وفي انتظار أن أسمع ضحكة صغيرة على فكرة أن يستبرد رجل مثلي، كان الأول يقول للثاني “شنو كان اسمها ؟ سكاي دايف، لا لا، بس فيها سكاي، أقصد المشهد الي تشوفه للمدينة لم توقف عند البحر”
تملكتني رغبة شديدة أن أقول أن الكلمة التي يقصدها هي سكاي لاين، لكن كنت أستمتع بفكرة عدم اليقين للحوار؛ بأن ينتظر الشخص الآخر قبل أن يقول “قصدك العمارة ؟” وأن يُستكمل الحوار بذات الصورة في ذهن كل منهما عن المشهد الموصوف، أبراج وعمارات المدن، وهي تُرى من على طرف شاطئ مقابل، والأنوار الصغيرة التي تنعكس على صفحة البحر، دون أن يكون لذلك المكان في ذهنيهما اسم معين يحدده. الآن أنا أفكر، ما الترجمة الممكنة لكلمة سكاي لاين ؟ خط السماء ؟ قد يصلح استخلاص شيء من بيت السياب، عيناك غابتا نخيل، لا استطيع أن أفكر بالعراق وسط كأس الخليج الحالي، دون أن تلوح لي صورة العراق من بعيد وسط النخيل، دون أن أتذكر ذلك الوصف.
كنت أتمشى بسيارتي راجعًا من حديقة الشهيد، حين تعرفت على عازف جديد اسمه Ludovico Einaudi. في العازفين المعاصرين سحر خاص. رغم عظمة بيتهوفين أو باخ، لم أكن أشعر حين الاستماع لهما سوى بالرهبة، رهبة أن يقف الإنسان أمام شيء بذلك العظمة. لا تذكرني الرهبة والعظمة بمشاعري اليومية. أحب الاستماع للعازفين المعاصرين، أحب أن أشعر أن النغمة التالية حين تعلو ببساطة، ستذكرني باللحظة التي تستيقظ بها في أول يوم من الويكند، أو حين تنخفض ببساطة، ستتذكر الأيام التي لا أستطيع بها حتى الاستماع لصوت قفلة باب، أو حين تصبح الثيمة ثيمة ضياع أو حيرة أو ضعف، أن يشعر الإنسان بالضياع والحيرة والضعف. بالضبط كما أشعر بالرهبة من تولستوي، وأحب فيليب روث.
توصية: Divenire – Ludovico Einaudi
–
لا يختلف برد الطريق عن برد القلب، كلاهما يحدثان بذات الطريقة. أن تبدأ مشوار معين، دون أن تستعد بما كان يجب عليك أن تستعد به. لا أشعر بتلك البرودة حين أكتب عنها، أشرب كوب قهوة ساخن بعد أن شعرت أن الجاكيت الإضافي لن يتوازن بحرارته مع حرارة القهوة.
أجلس في ستاربكس، لا أشعر بالوحدة حين أجلس لوحدي في مكان عام، وأكتب. لوهلة كنت أشك بإيماني بتلك الفكرة، قبل أن تنطفئ الكهرباء فجأة من المكان. كنت أنظر من حولي نحو الأشخاص الجالسين في دهشة مما يحدث، كانت النظرة المشتركة في كل عين تمر بها عيني، تشعرني بالألفة التي من الممكن أن يحملها مصير مشترك.
من وراء النافذة يتحرك العالم. أتذكر السؤال المعتاد في مقابلات أنس بوخش “لو كان بيدك لوحة بيضا، شلون ترسم شي يعبّر عن حالتك الشعورية” في كل مرة أفكر ما الجواب الذي لا يبدو متفلسفًا هنا ؟ لو كان بيدي أن أرسم ؟ أريد رسم نافذة، ليس لأنها تعبر عن الحزن الذي أشعر به، أو تعبر عن الغضب أو الحب. أريد أن أجلس ذات الجلسة التي أجلسها الآن، صافنًا في زاوية ستاربكس، وأنظر من تلك النافذة على ما يقبع خلفها، هل هناك ما يتحرك، هل هناك ما هو واقف، هل هناك شيء من الأساس ؟
كيف يفرق الإنسان بين النشيج، وخشم ممتلئ يحاول تدارك السيلان ؟ لا أستطيع أن أميل برأسي نحو الحبيبين الجالسين بجانبي. في دخولها كانا يضحكان؛ لكن جلوسها في المسافة بينه وبين الحائط، الصمت، محاولة مشي الحبيب بطريقة تبدو يومية، كان كل ذلك يقنعني أن الضحكة ليست سوى تلطيف للقاء أخير. أتمنى أن أكون مخطئا، أن يخرجان من هنا، ولا يكونان حبيبين كما ظننت، بل مر على زواجها ثلاث سنوات، مر القدر الكافي من الزمن الذي يجعل فيه محاولة تدارك سيلان أنف ممتلئ، ليست سوى سببًا آخر للقرب.
كانت تخبرني أمي عن ابن أم يوسف، كيف أنه ولدها الوحيد الذي لم يجد وظيفة، حتى بعد تخرجه بثلاث سنين. “يا عويني هي، وحيدها. تدري، مو بس هو وحيدها، حتى أبوه، كان وحيد أمه، تقول أم يوسف هالشي بدمهم، ما يولدون غير ولد واحد” قعدت أضحك. تذكرت رواية رام الله، وكيف أن ذات الشيء حدث في الرواية “ما توقعت أصادف هالشي بالصج يما، قريته مرة برواية”
هنا أشعر بالدفء، حين أتوقف عن الكتابة قليلًا، أضع كفي على خدي الأيمن وأبتسم. أتذكر احساسي وسط سماع قصة أمي بركض ابنة أخي الصغيرة واحتضانها أقصى ما تصل إليه من جسدي، ركبتي بالضبط.
لا أحد يعرف كم يطول يوم حين تكتب عنه. لي، ربما صفحة أو صفحتين. للحبيبين بجانبي، ربما العمر كله. تشيزي ؟ ربما، هذا تأثير رواية نسيم الصبا التي أنهيتها قبل يومين وسط نشيج متكرر وخشم ممتلئ يحاول تدارك السيلان.
بالنسبة لرواية نسيم الصبا لها جزء ثاني يجبر الخاطر
إعجابإعجاب