بوكوفسكي

فيما كنت عائدًا للبيت من رفقة صديق حتى الساعة الواحدة صباحًا. توقفت عند إشارة حمراء. أشعلت سيجارة وتأملت الشق الآخر من اليوم. وفكرت فيما اعتاد أبي أن يقول عند غروب الشمس: انتهى اليوم. نابذًا الجزء الحالك من الأيام، ومقتصرًا حدودها على الشمس وضوؤها. نظرت مرة أخرى للسيجارة التي تعذّرتُ بحسن تربيتي لكي لا أدخنها، رغم أنني كنت أفعل سرًا. وسيارتي المتحركة لعدم جدوى الوقوف تحت حمرة الإشارة في خلو بقية المسارات. وسمعت شتيمة أطلقتها مسبقًا على “كلب” لم يستطع الاحتفاظ ببعض لحظات هدوء ينتظر فيها أن أكمل “الدوّار”، بل فضّل أن يمخر كل احتمالات الحوادث على ذلك.
فكرت بكل تلك النواقص التي تملأني، والتي أصبحت أشهر من نار على علم في أوقاتي الخاصة، مظهرًا كل تلك الجوانب، ليس تحببًا بالخطأ، بل تقبّلًا للنواقص الإنسانية.
كانت البذرة الأولى من الأدب. بوكوفسكي الذي كنت أسميه “الملعون” بعد أن قرأت مجموعته القصصية “جنوب بلا شمال”، لأكتشف عوالم غريبة، مليئة بالجنس والعاهرات، لكنها كتبت بطريقة لا تشبه أحد غير بوكوفسكي. لم أقرأ لكاتب يسرف بالاستعمال الآيروتيكي، لكنه بذات الوقت يجيد الكتابة. عرجت على الغودريدز، ونقرت بإصبعي على نجمتين، رغم أنني مقتنع تمامًا أنها خمسة نجوم. لم يتوقف الأمر مع بوكوفسكي عند هذا الكتاب. أكملت الرحلة نحو رواياته الأخرى، وذات التردد يخالجني عند كل تقييم. وصلت أخيرًا للشعر، وقرأته في بدايات قراءاتي الشعرية، حين كنت متوهمًا أن الشعر أسمى من الإنسان، وأن هذا “الملعون” كما سميته مسبقًا يلعب بأصول الشعر. حتى قرأت قصيدته الشهيرة Bluebird, كل تلك البساطة، نادل البار، العاهرات، كل الذين يقابلهم في تلك القصيدة كانوا كما هم، إنسانيون جدًا، وعذبون في سياق القصيدة. كان بوكوفسكي شاعرًا إنسانًا، بكل بذاءة الواقع، بكل عذوبة الشعر.
كان التفكير عند تلك الإشارة لتزجية الوقت في شارعٍ خالٍ من الرفقة. وكانت الرفقة في هذا الشارع، فكرة أن الأدب لم يتخذ يومًا وهم المثالية هدفًا له، لكنها حقيقة الإنسان في إنسانيته تلك التي تهمه.

5/2/2019

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: