مدن وما لا أفهمه من الأفلام


تغرب الشمس قليلًا، ومن العتمة التي تغطي جنبات الطريق، لا يزال النور يُري العين ما تحتاج أن تراه. أمر بجانب لوحة محكمة الأسرة، وأجد علامة أكس مرسومة ببخاخ أسود. أظن لوهلة أنني أستطيع اختراق اللحظة التي أرى بها اللوحة، لأفهم ما الذي يعنيه أن يخرّب شخص كلمة الأسرة. ولكن ليست كل الأمور بتلك البساطة.
كنت أغالب غضبي حين قال أبوي لولد أختي “ماشاءالله، تحفر بالحديقة ؟ تحفر قبر” لم يستوعب في البداية وقع الكلمة التي قالها، إلا حين نظر إلي. لا يزلّ لساني في العادة، لكنني أشبه أبوي كثيرًا، ولكن بشكل أخف وأبسط. باللحظة التي يعطي أبوي فيها حديقة، كنت أعرف كيف أزرع وردة مشموم صغيرة، وفي اللحظة التي يزل فيها بكلمة، كنت أزل بنظرة لا أستطيع التحكم بها.
تذكرت أبوي في فيلم Stanley and Iris. يتوقف دي نيرو أمام حبيبته، ولا يفهم لم يشعر بالغضب، في كل مرة يشعر بالحاجة أو الاشتياق.
أتذكر أمي تقول “أنا الي أسوي الشاي كل يوم، ليش بتسويه انت ؟” ودون أن ينظر، استمر أبوي بالوقوف أمام غوري الماي المغلي “بس، بسوي لي واحد” كنت أفهم تلك الرغبة، ليس لأنني أفهمه من النظرة، ولا لأنني مهووس بتفاصيل المشاعر. ولكن وببساطة، فيني منه. فيني منه، حتى بجلستهما معًا بعد لحظة العناد والغضب البسيطة، ومشاركة غوري شاي واحد، وسط البرد.
أتذكر هذا البيت لقسطنطين كافافيس: 
You won’t find a new country, won’t find another shore. This city will always pursue you.
لا نستطيع الانفصال عن أهلنا بتلك البساطة. فبعد الابتسامة الصغيرة لرؤية ابن يرتدي غترة، بالضبط كما غترة أبوه. كان يلوح الظل، الذي نعيش مقتفين أثره.
أفكر أحيانًا، ماذا لو انتبه أبوي لتلك الأمور حين شاهد جدي يفعلها. ماذا لو جلس جلستي هذه والشمس تغرب من النافذة وكوب الوايت موكا أسخن مما يجب أن يكون عليه، هل سيتغير شيء معه ؟ هل سيتغير شيء معي ؟
أشعر بالراحة بالكتابة عن المشاعر البسيطة. عما يحدث اليوم أو أمس أو غدًا. أن أنظر للعين، دون أن أتخيل أنني سأفهم كيف للرمش أن يتحرك حين الشعور بالحزن، وكيف تتحرك سبعة عشر عضلة ليبتسم الإنسان، وكيف لرجفة الغضب، ألا تحدث إلا لشخص نادر الغضب مثلي.
لا تزال الشمس تنخفض، لا يزال الناس يمرون، لا يزال دخان السجائر يرتفع وينخفض عابرًا الهواء. كنت أنظر نحو الشارع، بكل سلام وبلاهة أن يفهم المرء. كم هو جميل أن يرتدي ابن غترة، تمامًا كما غترة أبوه.
بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الآن، لو تركت هذه الصفحة كما هي عليه، هل سيكون لها نفع، لشخص يشعر بمثل الذي أشعر به، وأنا بزاوية ستاربكس ؟


لا يفرق كثيرًا معي الهواء المكتوم في غرفتي حين لا أفتح النافذة ليومين أو أكثر. لا تفرق معي دورة الهواء ولا نقص الأوكسجين ولا حاجة نبتتي الصغيرة الذابلة لشيء يربطها بالعالم الخارجي لكي تعيش. كان كل ما أفتقده، اللحظة التي أجلس فيها على مكتبي، وتتحرك ستارتي الرمادية، لتلمس طرف بنطالي الرمادي، فأشعر أن هناك ما هو أجمل من جلوسي على مكتبي المليء بالكتب النصف مقروءة.
كنت أفكر كيف لتعبير جميل مثل “triangle of sadness” أن يعني الفيلم المقزز، كما يعني اللحظة التي تتكشر فيها الملامح، فيبدوان الحاجبان كما لو أنهما يحاولان معانقة بعضهما البعض، فينشأ فيما بينهما مثلث صغير جدًا يدل علي الحزن. لم أتخيل أن لأحد في هذا العالم اسمًا لتلك الحركة البسيطة غير بيتنا المهووس بالتفاصيل. كنت أجلس في كل مرة ترفض أمي شراء ماكدونالدز لنا في ليلة الخميس، أو حين أرفض أن أصبر على ترك دواء الحساسية على وجهي لنصف ساعة تحت الشمس، أو حين لا تجعلني أضع رأسي على فخذها بعد أن صار عمري تسع سنوات. كنت أجلس، ورويدًا رويدًا تتحرك عضلات جبهتي لتخلق ذلك المثلث الصغير بين حاجبي. “تركي لا تعقد النونة” ربما لم تكن تسمية أمي تحمل شرحًا دقيقًا لتفاعل عضلات الجبهة مع المشاعر، أو شاعري كفاية لأن يجعل للحزن مثلث، لكنه كان يبسط الشعور، يجعله خفيفًا، هشًا جدًا، للحد الذي يكفيه أن تكرر أمي تسمية “نونة” مرة أخرى، فأضحك، وتختفي كل الدراما التي كنت أعيشها.
لا شيء يشبه القصور في هذا الوقت. النخل يحتضن البيوت، المصابيح أخفت مما كانت عليه في أول الليل، وصوت الشارع الذي يجده أصدقائي سببًا لعدم النوم، كنت أجده صوت العودة إلى البيت بعد يوم طويل. أصفن كثيرًا في اللحظات التي نجلس بها في خيمة البيت، لم أحب منطقتنا ؟ لا توجد أغنية مثل ما أرق الرياض لها، جيرانها ليسوا بذلك القرب، ولسنا من عيال السور لنشعر أن الكويت ليست إلا هذه الرقعة المحدودة. الساعة التاسعة والنصف، أنوار بيوت المنطقة مطفأة، صوت الطيور يُسمع، مكتبتي التي لم تعد صغيرة على بعد درج وبابين، وكل زاوية منها تذكرني بشيء كتبته وأنا أحوس بسيارتي آخر الليل. ربما لو عشت في مدينة لها تاريخ معين سأحبها لأجل هذا التاريخ، لكنني الآن أحب المدن لما هو أبسط، لما هو أخف، لما هو أكثر هشاشة، نونة، وتضحك أمي، وتبقى الضحكة مزروعة في أرض المنطقة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: