لا ألحظ ضعف ذاكرتي في المشاهد التي يبدو فيها النسيان ضعفًا. تحدث في المواقف البسيطة التافهة، أن أحاول الزهو بامتلاكي من مكتبة مستعملة نسخة كتاب موقعة لكاتب مصري لم أعد أتذكر اسمه الآن، أو أن أحاول شرح كيف يبدو عذبًا إيجاد رسالة حبيبة في نسخة رسائل عشيقة لبيسوا، دون أن يرتسم أمامي ما هو عذب في تلك الرسالة، أو أن أشتري نسخة من رواية لمارغريت دوراس، وأكتشف حين رجوعي إلى مكتبتي أنها النسخة الثالثة من ذلك الكتاب.
“على طرف لساني” أقول وأنا أقف متعذرًا وسط ذهني الخالي تمامًا، دون أن تقف على طرف لساني سوى ابتسامة التعذر بالذهاب لصلب الموضوع بدل الانشغال بتذكر تفاصيل الأحاديث. لكن ما الأحاديث لولا التفاصيل بها ؟ ما طعم أن أقول أن نسخة الكتاب المستعمل الموقعة من الكاتب المصري، كانت لإدوارد الخراط. أو أن أول جملة من رسالة الحبيبة كانت تقول “للصديق الذي يشاركني الحياة والكتب والرسائل، على الطرف الآخر من البحر”. أو أن نسختين لذات الكتاب، لا يمكن أن تتشابهان، حين تفتح الصفحة الأولى وتجد أنها بترجمة أجمل مما كنت أتخيل.
أحب النسيان رغم كل ما يفوته علي من متعة الحديث. كنت أقف أمام السكن المقابل للمكتبة المستعملة، مشدوهًا من الدفء الذي قد تحمله شرف سكن قديم. أتحدث مع صديقي عنها، ويقول لي “هذي مو إلي مرة صورتها بانستغرام ؟” أعود لملف الصور وأجد صورة لذات المكان، ذات الشرف، وذات الزاوية التي شعرت بها بالدفء من وجود مكان حي وسط المدينة.
هناك حل سريع “حبوب حديد، وإذا ما فاد يعطونك إبرة حديد مرة كل شهر” يعطيني هذا الحل كل ما أفتقده الآن؛ سرعة بالزهو بما أملك، تفاصيل تثير في الإنسان القدرة على الوجود، وتوفير مساحة في مكتبتي من تكرار ذات النسخ لذات الكتاب. لكنه أيضًا، كيف أقول هذا دون أن أبدو متفلسفًا، سيفقدني ما هو مفقود مني، ألا أعود إلى البيت وأصفن محاولًا تذكر دفء التفاصيل، فأمر في طريق التذكر على كل الأشياء الجميلة التي حدثت في ذلك اليوم. أنني تأكدت من توقيع إدوارد الخراط من الكاتب إبراهيم فرغلي حين شرح لي جمال كتابة إدوارد. أو أن رسالة الحبيبة ذكرتني بكتابة رسائل خاصة بي في آخر صفحة من الكتب التي أحبها، أما شراء نسخ عديدة من كتب مارغريت دوراس فهو ليس إلا ثمن أدفعه من حسابي البنكي الخاص ثمنًا للتفلسف عن جمال النسيان.