في الرابع عشر من كل شهر
بعد مائة عام
لن يتذكرنا أحد،
لا الصدُدَفْ المتكئة على عكّاز الليل
ولا الغيم النازف فوق صورته،
لا البراويز التي نرفّ منها كطير
وتسجننا كقفص
ولا رسائلنا التي تركناها مبتورة الأجنحة،
لا الأغنيات، ولا كهل السور،
لا الباب، ولا الشروق،
لا الشمال، ولا الأرصفة،
ولا التائهين مثلنا
في طريق الذكريات الطويل،
سنرحل جميعًا
وسترحل القبيلة
وسنبقى أنا وأنت
ذكرى في قلب المدينة،
وحتى ذلك اليوم
بعد مائة عام،
لن أمل الحديث عن أجدادنا
وهم يشعلون الحرائق في رفات الأيام
دونما كبريت،
ولن أمل الحديث عن الجهراء
وهي تلمع
من عيون المنسيين
وأن الكثير من الأشياء
تعود إلى الذاكرة
من رائحة غبار لم ينفض بعد
عن ظهر غريب،
ولن أمل الحديث عن أبي
الشيخ النحيل المتخم بالصحراء والهيل
ولا عن أمي
وهي تتمخض عن شاعر
لديه ما يكفي من الثقوب في جسده
لتغني فيها الريح
ولا عن الرفاق
وهم يحاربون الليل
بقمر ليس بناقص
ولا عن البرودة
وهي تدق معاصمنا
كلما رأينا غرابًا
في وسط الحياة،
ولن أمل الحديث عن القصائد
التي نتحدث عنها كما نتحدث عن الحروب
أو حمى الظهيرة
أو عن أصابعنا وهي تلد النوافذ والحمامات
من أوجه فاتورات المطاعم ومناديل المقاهي،
ولن أمل الحديث عن النبهان
وهو يرثي بدمه المنسي..
المنسي وأبيه
ولا عن دخيل
وهو يكتب بالملح قصيدة الصحراء
والورد النابت نحو جذره،
ولن أمل الحديث عن وطني
وأوتاوا، أوتاوا التي تحمل في عروقها الباردة
أبناءنا المنسيين
لن أمل الحديث عنك يا وطني
ولا عن القبيلة
ولا الرابع عشر من كل شهر
وهو يحملنا
ذكرى في قلب المدينة.
29/3/2019
ـــــــــــــــــــــــــــ
لم ينبت كشجرة
أو كفرعها الشمالي
لكنه أبي
منذ شهقة الوجود
وهو يميل برأسه لنداء الريح
ويشرب الأبدية العمياء
من فنجاله
المستحيل عظمة
في حنجرة الأيام المسعورة،
هذا أبي
لم يقطف الياسمين من لمعة النجوم
ولم ينصت لغناء الطيور في أفئدة الوسائد
لكنه راح يحك ظهره بالطرق المالحة
ويضرب “بسوناتا” نعله
الطرق المتخشبة بصنعة الذكريات
ويردد أغنيته الأبدية:
“يا ليتني طير، ونورة حمامة“
هذا أبي
ها هي الأجنحة تدمي ظهره
دون أن تطل برأسها
وها هو الشيب ينبت ريشًا في قلبه
دون أن يدفيه
وها نحن نناديه
من حناجرنا المصبوبة
كالإزفلت الحارق تحت أعيننا
هذا أبي
بساعده مائة عكّاز لمائة خريف
مائة خنجر لمائة صحراء
وبعدك..
يا بهجة الاثنين وعشرين شمعة
ستطن في أذني
تغاريد النهايات الأبدية
وستولد الغربان من صدري الخشبي
لكنني رغم ذلك
سأنظر للسحاب
كلما تذكرتك
وأبتسم للملح الذي يحمله
في قلبه المتشجر.
10/1/2019
ـــــــــــــــــــــــــــ
حين يعصف العمر بالذاكرة
وتنسدل فوق أعشاشه أنوار السماء
ستهرب حمامة نحو البعيد
تاركة فزعها، وشوق الأجنحة
على شرفة الربيع
سأنسى حينها الكثير
لكنني سأعرفك
سأعرفك حين يُجَبُّ القلب في البئر
ولا تحضن عيناي
إلا رائحة الليل وارتعاش الحشائش
سأعرف، رغم الظلمة، أنكِ هنا
خلف النعاس والخطيئة
تلوحين للبدء الجديد
كلما التهم الليل نصفكِ
سأعرفكِ، حين يأتي الغسق
وتذوب شمس الأوطان
في طوفان القبيلة
سأعرف أن النور لا ينضح
حين يسلك الشمال طريقًا
تاركًا أخاه
في ظلمات الرسائل والغياب
سأعرفكِ حين تَضربُ
زهور عباد الشمس جذورها
في الظلام
وتبتسم لسراب الشموس الغائبة
ليس لأنها شبقة للهلاك
لكن لإيمانها أن الأعراف لا تلوّح
إلا بقمر، وغراب كسيح
سأتذكر كصورة أخيرة
انكسار المسافة
وخطوات الأغراب على سلّم بيتكم
سأبتسم لهزيمتي وغصني المرتجف
وألوّح لأمي الشجرة، وأبتي السماء
ومن ألف ألف صوت
سأجتثكِ، صلاةً أخيرة
حين يُوْدعونك
عصاة في أكفهم.
26/11/2018
ـــــــــــــــــــــــــــ
هذا الغروب في السماء
أعرفه
إنه دم اليوم
وهو يحتضر.
وهذا الغروب في قلبي
أعرفه
إنه خسارات ساهرة
ظلّت توهم الشروق
بأنه سيكون يومًا
حقيقيًا.
وهذا الغروب في أرجلنا
أعرفه
إنه هروبنا
فوق الحقول المحترقة
بحثًا عن مآذن الشمس
والبيوت التي طرفنا أبوابها الثكلى
تنوح أبناءها بجانب سدرة
جنّ فوق عفاريتها الليل
ولم تحترق.
وهذا الغروب في جفنيّ
أعرفه
إنه منارات
ترمش لسراب أطفالها
في البحر الفسيح
وقوارب
تلوّح برايات الهزيمة
كلما هبّت الريح.
وهذا الغروب في كفيّ
أعرفه
إنه نارنج لوركا
وعصا نيرودا المعقوفة
التي يضرب بها نهايات القصيدة
إنه رياض
الذي لا يزال يتلمس كبريته
وقلمه الذي خبأه بيد حبيبته
قبل أن يرحل
إنه أصدقاء الأشجار الميتة
الذين يتلمسون معاصمهم
حين يقابلون الخريف
كل ليلة.
وهذا الغروب في وطني
أعرفه
إنه مغبة بعيدة
وخبز في رأس مصلوب
وربيعٌ فسّروه
أنه ابن قبيلة
مخضّب بالصمت
إنه آمال الأطفال
التي تركوها مقلوبة
على كتف إمام
قبل أن يدعو الرب
بالمطر.
وهذا الغروب في الورقة
أعرفه
إنه قصيدة أخيرة
وعينان
لا تنظران
إلا لليل
لستُ فيه.
17/8/2018