هل تسقط الطيور بعشوائية ؟

في الطريق المنثور على وجهه فيء الأشجار، أمر راكضًا في التمرين اليومي. قطرة مطر صغيرة تحط على كتفي، كلمة صغيرة لو تتخيلها قليلًا، كلمة صغيرة تخرج من شخص يجمع الرمل ثم ينثره على حد الشاطئ، كلمة صغيرة تحلّق في الهواء، كلمة صغيرة تذوب في ملوحة البحر، كلمة صغيرة تسبح وتتبخر وتتكثف وتطير ثم تسقط، تمامًا على الكتف التي تحتاجها.

السرعة: ٩ دقائق للكيلومتر.

اتصال هاتفي من صديقي، في اللحظة التي أحاول فيها أن أخرج هاتفي يرتفع الشورت قليلًا فألمح “حبة الخال” تتوسط فخذي، أُجيب بعد أن أبطئ من سرعتي وأتلاحق أنفاسي، “إنت وينك، بالجنة ؟” يقول صديقي، أحلل النكتة قليلًا، ينكسر اعتياد أذني للأصوات من حولي، أرفع رأسي للأشجار الملأى بالعصافير، قليلًا قليلًا يعلو صخب التغاريد الجميلة، قليلًا قليلًا تتضح النكتة، كالموت تبدو حين أمنطقها، وكالضحك إن تجاوزتُ، “خوش قطّة، كرييتڤ” أقول ثم أضحك

السرعة: ١٢ دقيقة للكيلومتر .

في كل مرة أكتشف فيها الجمال، أظل أتأمله مدهوشًا لفترة قصيرة، ثم يذوب بعدها، ككل شيء، في الاعتياد. مكالمة سريعة كتلك، تجعلني أنظر من حولي فأرى كل شيء إلا ما كنت أراه. هل كان المشموم يُقطف من الأطفال بهذه الشراهة ؟ وهل كانت كل العوائل منذ البداية تعرف طريقتنا السرية -١- للتعطر به ؟ هل كان النخل منذ البداية يردني إلى بيتنا والحديقة ؟ هل كنت منذ البداية أركض على الخط الأصفر بهذه الدقة دون أن أحيد عنه ؟ هل كانت وريقات الورود الصفراء متساقطة من الأشجار حول الخط الأصفر ؟ هل بعض أغصان تلك الأشجار تحمل ورودًا صفراء والأخرى لا ؟ هل غصن صغير يعني وطن ؟ هل طير بعيد يعني غريب ؟ هل المحطات في المسافة بين غصن وطير (محطة سقف البنايات، محطة رؤوس مصابيح الشارع، محطة كتف طفل لم يحسن الوقوف فسقط، محطة نوم فوق العشب بجرح خفيّ) هل حقًا كل تلك المحطات عشوائية ؟

حين أتخيل، أقول لصديقي في مكالمة، تزيد سرعتي في الركض، وأنسى الوقت وتعب رجلي والمسافة.

السرعة: ٧ دقائق للكيلومتر.

يتلهفني المشموم والنخل للبيت والحديقة. أخرج هاتفي لأتصل بأمي، ذات حبة الخال بارتفاع الشورت. “يما، تذكرين النبتة الي بحديقتنا كنا نقطفها ونتعطر فيها ؟” أسألها بنفس متقطع. حتى أكتب هذا النص، أحتاج معرفة الأسماء. تضحك. اعتادت أسئلتي الغريبة. “بتكتبها ؟ اسمه مشموم” أصمت قليلًا. “انزين حبة الخال بفخذي، شنو كنتي متنسية فيه وقتها ؟” أسمع أختي بجانبها تضحك. “جبده، كان ليل ومتنسية بجبده”، أشكرها، بعد أن أعاتبها على “السبيكر” الذي فضحني وأقفل الخط.

أكمل الركض ثم أعود إلى البيت.

السرعة: ١٠ دقائق للكيلومتر.

بعد أن دخلت إلى البيت، بنصف ساعة، توفيت أم نصيرة، خادمتنا المنزلية. وقبل أن تُنزل أي دمعة، كما لو أنها تملك حبسها وإسقاطها كما تُريد، جاءت تستأذن أمي بأن تقضي بقية اليوم، والذي هو من خبر الوفاة الساعة ٧:٠٩ مساءً، حتى صباح اليوم التالي، أن تقضيه في غرفتهم العلوية.

ما الذي نتذكره عن شخص لحظة حزن، أو غضب، أو حنين ؟

حين كنت في الابتدائية، دخلت في “هوشة” مع صالح، الذي كان أبعد ما يكون عن اسمه. في لحظة معينة، وحين ضربني بقبضته وسقطت، قال “العن أمك”

كطفل، يبدو الغضب عشوائيًا جدًا لمن يراه من بعيد. لكنني حينها، وكشاشة سينما مسرّعة، كنت لا أنظر لصالح، ولكن بترتيب معيّن، كنت أدخل البيت وأمشي إلى المطبخ، لأرى أمي بدراعتها العنابية في أرضية المطبخ، تصنع حلى الأناناس -٢-، تضع الرطب في الزبدة المذوبة، ثم في الطحين المحموس، ثم تثبته بعود أسنان على الأناناس الصغير. من يرى هدوئي حين سقطت، لا يتخيل أنني وقفت بعدها، ولا يتخيل أنني ضربت صالح، ولا يتخيل أنني صعدت فوقه لأكمل ضربه حتى نزعوني عنه.

ما الذي نتذكره عن شخص لحظة حزن، أو غضب، أو حنين ؟

أحاول أن أفكر وأنا أرى نصيرة تتوارى في ظلمة الدرج صاعدة. أحاول أن أفكر، هل الغصن وطن، وهل الطير غريب، وهل تسقط الطيور بعشوائية ؟

محطة هو بيتنا، والمسافة طويلة، بين الطير وغصنه.

-١- نقطف غصن المشموم الصغير، نضع أيدينا في آخره، ثم نسحبها إلى أعلى، قاطفين ورود المشموم جميعها، نضعهم في وسط الكف، ثم نفرك كفينا بالمشموم، حتى تفوح الرائحة.

-٢- لو تعلم أمي فقط أنني أنشر وصفة حلى الأناناس السرية لكم.

أضف تعليق