لا يختلف كثيرًا صوت الصخور المتساقطة من سقف بيت الجيران قبيل سفري إلى دبي، عنه حين رجعت منها. أستيقظ صباح يوم الخميس، كما أستيقظ تمامًا في الخميس الذي بعده، صوت طقطقة الصخور، نداء عامل من بعيد، وألم في عضلة الفخذ والساق وباطن القدم من زحمة السفر.
أستصعب الخروج من غرفتي بعد السفر. أتلحّف في سريري وأعزل نفسي مع كتابٍ لكناوسغارد؛ علّ السفر يغادرني كما غادرته. أتوهم أنني بتلك الطريقة أريح عضلات الفخذ والساق وباطن القدم، لكنني أجد تلك العضلات، ودون الحاجة لأي جهد جسدي، تتصلب أكثر. أتذكر كيف كنت أشرح لصديقي شعوري الحالي “ودي أرتاح، أحس أيامي ركضة” ولم أتخيل أن العضلات تتعبها المشاعر، كما تتعبها الحركة. أجد نفسي كلما أطلت المكوث في السرير، كلما طال تعب جسدي.
أرتدي ملابس الرياضة للذهاب إلى الحمام، ليس لشيء إلا لأنها كانت أقرب ملابس مرمية على الأرض بجانبي، فأجد ما إن خرجت من غرفتي، أن ذهابي للركض في حديقة الشهيد على بعد نصف ساعة من البيت بالسيارة، أقرب لي من الوصول إلى الحمام.
تتوقف سيارتي في ذات الموقف لمدة أسبوع كامل، فأستطيع أن ألمح في طريقي إليها بقايا الإسمنت والأتربة تحيط بعجلة السيارة دون حركة. ألتفت قليلًا نحو بيت الجيران، فأنظر لجبل أكياس الإسمنت لا يتناقص، رغم تضخّم بيت الجيران عن آخر مرة رأيته فيها.
لا يزعجني كثيرًا صوت الصخور المتساقطة من بيت الجيران، حيث أن الصمت التام على بيت يطل على شارع رئيسي مثل بيتنا أمر مستحيل. ولا يزعجني أيضًا دلالة بناء الجيران لبيتهم، حيث أنه يعد سبب منطقي لأمي لفتح موضوع الزواج مرة أخرى. إنما ما يزعجني هو حين أخرج من باب بيتنا، وبدل أن أطلق نظرتي مباشرة لمنارة مسجد الحي، وللشمس الغاربة خلف المئذنة، كانت نظرتي بعد أكثر من عملية بناء، تصطدم بالنافذة المستطيلة لبيت الطراروة المبني حديثًا. كانت عمليات الهدم والبناء تلك، لا تهدم وتبني حيّز البيت فقط، ولكنها كانت تهدم وتبني كيف نتذكر الحي أيضًا.
يبدوغريبًا الغروب في الكويت، فليس له في أغلب الأحيان إلا المعنى الحرفي للكلمة، ضوء موجودٌ في لحظة، ثم في اللحظة التالية يخبو. لا لون يسطو على الذاكرة، ولا طير يمر مسرعًا خلف سماءٍ برتقالية، ليذكرنا برحيل شيء ما.
وكما كل مدح، كنت أحيل الجمال لغير المكان الذي نعيش فيه، لم يكن الغروب اليوم يشبه غروب الكويت. كان أحد أيام الغروب التي تستطيع برؤيتها أن تتذكر شيء ما. أن ترى الأحمر، فتتذكر جرح ابن أختك الصغير، أن ترى الأزرق، فتتذكر البحر من نافذة الطائرة، أن ترى الأصفر، فتتذكر عصفور البيت المزعج، الوردي، البنفسجي، الأسود، أن ترى كل الألوان، فترى بكرة خياطة، أو أول نظرة للمصابيح بعد حمام سباحة، أو أول ضحكة شعرت أنها أكثر من ضحكة. كان أحد تلك الأيام التي تستطيع فيها أن تجد فيها شيئًا، أن تحب الشيء، أن تصف الشيء، وأن تعيشه.
أعود صافنًا إلى البيت. أكمل النظر للغروب من النافذة المطلة على حديقة البيت. تطل صالة بيتنا على جانبين مختلفين، جانب الحديقة الملتصقة بالشارع الرئيسي المزعج، وجانب شارع الحي الهادئ. ورغم هدير السيارات المتواصل من جانب الحديقة، إلا أنني كنت أشعر بألفة أكبر للجانب المطل على الحديقة.
رغم عمليات الترميم في جانب الحديقة، إلا أنني منذ أن وعيت على الدنيا، لم يتغير شكل المنطقة أبدًا. فبدل أن يكون البيت المائل الحجري لأبو سعيد، أصبح البيت المائل الأبيض لأبو سعيد. وبدل أن نمشي تحت نخلتين وشجرة كنار، أصبحنا نمشي تحت ثلاث نخلات، ورغم أن صوت العصافير قل بعد تبديل شجرة الكنار بالنخلة، إلا أن صوت العصافير لا يحسن الغياب، يظل مثل ماهو، في زاوية الحديقة.
لا أحب التغيير، رغم معرفتي بحتميته. يحدث هذا عادةً حين أسافر، فرغم المتعة التي أعيشها هناك، إلا أنني ولمحاولة موازنة سرعة متطلبات السفر، وسكون حياتي قبله، أشعر كما لو أن جزءًا مني لم يصل حتى الآن، فأظل لبضعة أيام ألاحق ما لا أدركه.
أعود إلى غرفتي، تذكرني الأشياء من حولي بالسكون الذي كنت أعيشه. كتاب كناوسغارد في مكانه، ملابسي المرمية على الأرض، نبتاتي التي كادت أن تتيبس لولا رطوبة الجو، سعف النخيل الذي لم تتغير حركته مع الريح رغم كل التغييرات، وربما شروق وغروب الكويت الممل أيضًا، الملل الروتيني المريح ربما.